بعد النكسة وهزيمة حزيران عام 1967 بدأت بالتبلور في الأراضي الفلسطينية المحتلة حركة ثقافية جديدة مناهضة للاحتلال، استطاعت أن تشق دربها الى الجماهير بالموقف الواضح الملتزم والكلمة الوطنية الواعية والمضمون الكفاحي والنضالي .
وقد نمت هذه الحركة وترعرعت وصلب عودها وشهدت انتعاشاً ونهوضاً واسعاً في السبعينات من القرن الماضي ، من خلال الشعر والقصة والرواية ،وصدور الصحف والمجلات الأدبية والفكرية والثقافية الفلسطينية، وتأسيس دور النشر الوطنية، وتوسيع دائرة المنشورات والمطبوعات والمجموعات القصصية والروائية والدراسات التراثية علاوة على انطلاق وانبعاث المؤسسات والجمعيات الثقافية (دائرة الملتقى الفكري وجمعية الدراسات العربية ، مثلاً) وازدهار المسرح والفنون التشكيلية والغناء الوطني الملتزم، وتنظيم الفعاليات والأنشطة الأدبية والثقافية ومعارض الكتب والفن التشكيلي، واقامة الندوات الأدبية والثقافية والفنية .
أما التتويج الجماهيري فكان المهرجان الوطني الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة المنعقد في القدس (15 ـ 18 ـ آب 1981).
والواقع أن الحركة الثقافية الفلسطينية لعبت دوراً نضالياً وكفاحياً هاماً في مواجهة المحتل وفضح ممارساته القمعية ، والتصدي للحصار وحواجز الطرق وحظر التجول ، واستطاعت تعزيز وتكريس الشخصية الوطنية الفلسطينية عبر أدب نضالي وكفاحي مقاوم وملتزم امتاز بطابعه المتفاعل مع نبض الشارع والوجدان الفلسطيني والواقع المعيش تحت ربقة الاحتلال .
ونتيجة لهذا الدور التعبوي قامت سلطات الاحتلال بتوجيه سهامها نحو المنتجين والمبدعين والناشطين الثقافيين الفلسطينيين . كذلك قامت باعتقال الكثير منهم ووضعهم تحت الاقامات الجبرية وابعاد البعض منهم خارج حدود الوطن ، ونذكر من بين المعتقلين على سبيل المثال لا الحصر : جمال بنورة وخليل توما وعلي الخليلي ومحمود شقير وأسعد الأسعد واكرم هنية وعبد الناصر صالح ومحمد أيوب والمرحوم زكي العيلة وغريب عسقلاني وعصام بدر وعطا القيمري وسواهم. هذا بالاضافة الى مصادرة الكتب والمجلات واللوحات الفنية التشكيلية وشطب الكثير من الأشعار والقصص من الصحف والمجلات من قبل الرقابة العسكرية، ومنع معارض الكتب والرسم والندوات الأدبية والثقافية . وكل ذلك بهدف محاصرة وتطويق الوعي والثقافة الوطنية الفلسطينية التقدمية الملتزمة واغتيال فكر المقاومة وضرب الحركة الثقافية في الصميم ، التي نما وتصاعد دورها الكفاحي والنضالي وشكلت دعامة أساسية من دعائم النضال الوطني التحرري الفلسطيني من أجل الإستقلال.
وعندما انفجرت انتفاضة الحجر الفلسطيني أحدثت منعطفاً حاسماً وأساسياً في حاضر وواقع الثقافة الفلسطينية، وكان لها الدور الرئسي في تغليب المصلحة العامة على الخلافات الهامشية داخل روابط واتحادات الكتاب والتشكيليين الفلسطينيين ، وعلى تطور المضامين الابداعية وارساء سياسة ثقافية مضادة منحازة الى الجماهير والى مثل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، علاوة على تعبئة الناس وجماهير الشعب وحثها على الانخراط والمشاركة في الانتفاضة الشعبية ضد المحتل.
وجاءت النتاجات الثقافية والأدبية الجديدة ابان الانتفاضة في ضوء الواقع السياسي العربي والفلسطيني الراهن واسلوب تعاطيه مع الانتفاضة ، وحقيقة موقفه منها ، ومن حركة الجماهير الفاعلة فيها ، ومن اهدافها وتأثيراتها المختلفة على الصعيدين الفلسطيني والعربي. وتشكل ما يسمى بـ "الأدب الانتفاضي" أو "أدب الحجارة" الذي أشاد بالانتفاضة ومجد الحجر وهتف للمقاتلين والمناضلين الفلسطينيين ، الذين كان سلاحهم الحجر والمقلاع في مواجهة الدبابة والرصاصة.
وفي التسعينات اعترى الوضع الثقافي الفلسطيني في الأرض المحتلة ضموراً بارزاً نتيجة الأحداث والتغيرات التي طرات على الساحة العالمية والشرق اوسطية ، فتشتت النشاط الجماعي الفلسطيني وسادت الشللية وتراجع دور الجامعات والمؤسسات الثقافية الفلسطينية في العملية الثقافية الابداعية .
وبعد اوسلو ومجيء السلطة الوطنية الفلسطينية نشأ واقع جديد تكرس فيه الادب السلطوي المؤسساتي ، واقيمت الدوائر والمؤسسات الثقافية الممولة من قبل السلطة، وانخرط الأدباء والكتاب الفلسطينيون في مؤسسات السلطة ودوائرها . ونتيجة ذلك طرأ تراجع وانحسار في ثقافة الالتزام وأدب الرفض والمقاومة ، وتلاشت المؤسسات الثقافية الوطنية المستقلة، وتعطلت النشاطات الثقافية المختلفة، وتعمقت البيروقراطية الثقافية ، وسادت الخلافات والانشقاقات بين المنضوين تحت خيمة اتحاد الكتاب والادباء والصحفيين الفلسطينيين . زد على ذلك افول شمس الصحافة الادبية الفلسطينية وغياب المجلات الثقافية الشهرية ودور النشر الوطنية ،التي تعنى بطباعة وتوزيع الكتاب المحلي الفلسطيني.
وعلى ضوء ذلك هنالك حاجة وضرورة الى اعادة الوهج للكلمة الفلسطينية الحرة الواعية والمقاتلة ، والاعتبار والأصالة والاحترام للثقافة الوطنية والتقدمية الفلسطينية وللأدب الفلسطيني الطليعي الصدامي المقاوم ، الذي ينتصر للحياة والمستقبل والحرية وقضايا فقراء الوطن ، بديلاً للأدب السلطوي المؤسساتي الذي تبلور وازدهر بعد اوسلو.